محاكمة سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري

سوف يتم إضافة صور للجمري قريبــاً بإذن الله

 

القصة الكاملة لخلفيات محاكمة الشيخ الجمري والإفراج عنه
بقلم د. منصور الجمري (26 يوليو 1999)
الحدث الذي هز البحرين في 7 يوليو 1999 أصدرت محكمة أمن الدولة برئاسة عبد الرحمن جابر آل خليفة وعضوية على منصور (‏مصري) ومحمد رأفت مصطفى برغش ( مصري) حكما قاسيا على الشيخ عبد الأمير الجمري بالسجن عشر ‏سنوات ودفع غرامة قدرها 15 مليون دولار (5.7 مليون دينار). جاء هذا الحكم بعد أربعة جلسات، ‏عقدت الأولى في 21 فبراير 1999 وكانت مدتها 45 دقيقة قرأت فيها التهم الموجهة للشيخ الجمري ‏تضمنت خمسة تهم أساسية وهي:
1 -
جناية السعي و التخابر مع من يعملون لمصلحة دولة أجنبية.
2 -
جناية إدارة منظمة ترمي إلى قلب نظام الحكم بالقوة.
3 -
جناية التحريض على اتفاق الغرض منه ارتكاب جناية الإتلاف العمدي للمباني والأملاك العامة.
4 -
جنحة التحريض على إتلاف أموال خالصة ثابتة ومنقولة مما ترتب عليه حمل حياة الناس وأمنهم في خطر.
5 -
جنحة إذاعة أخبار و إشاعات كاذبة وبث دعايات مثيرة في داخل البلاد وخارجها من شأنها النيل من هيبة الدولة واعتبارها ولضرب الأمن العام.
وكان من المتوقع أن تعقد الجلسة الثانية في 7 مارس، إلا أن وفاة الأمير السابق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، في 6 مارس أدى إلى تأجيل ‏المحاكمة حتى 4 يوليو. وهذه الجلسة (الثانية) كانت مدتها قرابة 40 دقيقة. أما الجلسة الثالثة والجلسة الرابعة لم تستغرق كل ‏واحدة منهما أكثر من 5 دقائق. ‏الجلسة الثانية عقدت في 4 يوليو وتمكن الدفاع من إحضار أربعة شهود احدهم ابن الشيخ الجمري ( المهندس محمد ‏جميل ) وكل من الأستاذ عبد الوهاب حسين والأستاذ حسن المشيمع وكلاهما موقوف منذ يناير 1996. وقد تحدث رئيس محكمة أمن الدولة مع ‏المحامين لإقناعهم بعدم استدعاء شهود آخرين كان الدفاع سيطلبهم وهؤلاء كانوا بالتحديد الأستاذ علي ‏ربيعة والشيخ عيسى الجودر والسيد جواد الوداعي. وكان الدفاع يريد - إثبات بطلان ادعاء الحكومة بأن ‏الشيخ الجمري له ارتباطات خارجية من خلال شهادة رفاق دربه في المشروع الوطني ( اثنان من السنة ‏وهم علي ربيعة وعيسى الجودر) وشخصية دينية شيعية مرموقة متمثلة في السيد جواد الوداعي. غير أن رئيس ‏محكمة أمن الدولة قال لبعض المحامين " بأن الشيخ الجمري صديقي وأنا أعلم بأن تهمة التخابر ليست جدية ‏ولن تكون هدفا للمحكمة خصوصا وأن القيادة العليا في البلاد طلبت تخليص موضوع الشيخ الجمري ‏بسرعة". والادعاء العام ايضا اوحى بأنه لن يصر على هذه التهم. غير أن هدف محكمة أمن الدولة اتضح لاحقا، لأنها أدانت الشيخ الجمري في آخر ‏المحاكمة بتهمة التخابر، واصبح واضحا بعد ذلك أن القاضي كان سيوضع في حرج فيما لو استدعى ‏الشهود الثلاثة. فإدانة الشيخ الجمري بالتخابر لأنه طالب مع آخرين (من السنة) بمطالب وطنية سوف يكون أمرا غير معقولا. كما أن السيد جواد الوداعي لديه علاقات دينية مماثلة للشيخ الجمري، وإذا أدين الشيخ ‏الجمري بالتخابر مع دولة أجنبية ( إيران ) فإن جميع علماء الشيعة تلزم إدانتهم بنفس التهمة لأنهم ‏جميعا لديهم علاقات دينية منذ القدم مع كل من النجف الأشرف في العراق وقم المقدسة في إيران.
‏في الجلسة الثانية، شهد الشهود أنهم جميعا ليس لهم علاقة بأي من التهم الموجهة للشيخ
الجمري، وأن ‏الشيخ كان يشارك الشعب في مطالبه بصورة علنية تشهد بذلك جميع نشاطاته
وخطبه واتصالاته ونهجه. أما الجلسة الثالثة، فكانت للإدعاء العام لكي يطرح رده على
الشهود. إلا أن الإدعاء العام لم يقدم أي شهود، ‏لأن جميع الملفات التي قدمها هي عبارة عن
اعترافات لأشخاص موقوفين واكتفى الادعاء العام بتسليم ‏مذكرة مكتوبة مملوءة بالعبارات
 الشعرية والشتائم البذيئة مثل وصف الشيخ الجمري "بالأفعى"، وشتمه بأسلوب لا يليق بمهنة الإدعاء أو القضاء. ولذلك فإن الجلسة لم تدم ‏أكثر من خمس دقائق بعد تسليم مذكرة الادعاء العام. استلم الدفاع المذكرة وذهب للرد عليها في ‏اليوم التالي 7 يوليو. وفي صباح 7 يوليو سلم الدفاع مذكرة مكتوبة لقضاة محكمة أمن الدولة. وبعد دقيقة من ‏استلام المذكرة المكتوبة، فتح القاضي ورقة وقرأ حكما قاسيا دون أن يطلع على رد الدفاع. وانتهت الجلسة بعد ‏أقل من خمس دقائق من انعقادها. الهزة التي أحدثتها هذه المحكمة لم تتوقع مردوداتها الحكومة. فقد كانت الأوضاع هادئة منذ تولي الشيخ ‏حمد آل خليفة مقاليد الحكم في 6 مارس إثر وفاة والده. وكانت فصائل المعارضة قد دعت للهدوء وقدمت ‏العزاء للأمير الجديد وتمنت أن يكون عهده عهد إصلاح وخير. وأمل الشعب كثيرا بعد سماع تصريحات ‏الأمير التي تحدثت عن تغييرات وإصلاحات ومساواة بين المواطنين. إلا أن الحكم القاسي غير كل شيء، ‏وعاد الوضع للتوتر مرة أخرى، وانتشرت الكتابات الجدارية وبدأت الحرائق الاحتجاجية في العودة ‏وسمعت أصوات اسطوانات الغاز التي يفجرها أبناء الشعب تعبيرا عن احتجاجهم. هذا الوضع المتفجر كان على موعد مع هزة أخرى في اليوم التالي. ففي صباح الثامن من يوليو، كان الوضع ‏متأزما ومتفجرا، إلا أنه ومع الظهيرة نشرت الحكومة خبرا بأنها سوف تفرج عن الشيخ الجمري في حدود ‏الساعة الثالثة بعد الظهر. واتصل مكتب رئيس الوزراء بمنزل الشيخ الجمري وطلب لقاء عاجلا مع ‏اثنين من أبناء الشيخ الجمري (محمد جميل وصادق) وكان الاثنان قد استدعيا من قبل جهاز المخابرات في ‏صباح ذلك اليوم. بعد ان عادا للمنزل قرابة الساعة الثانية عشرة والنصف علما عن استدعائهما ‏لجلسة طارئة مع رئيس الوزراء. وهكذا وصلا إلى مكتب رئيس الوزراء، وكان في استقبالهما الأخير وابرز حفاوة لهما ‏وجلس معهما لمدة نصف ساعة قال فيها أنه " ليس لديه شئ ضد الشيخ الجمري وأنه يعرفه منذ أيام ‏المجلس الوطني ولكن أطراف أخرى دخلت بيننا"، وأخبرهما أن الشيخ الجمري سيفرج عنه قبل الساعة ‏الخامسة عصرا. رجع ابنا الشيخ الجمري إلى المنزل، وكان هناك اتصال آخر بصادق يطلب منه أخذ ثياب علماء الدين التي ‏يلبسها الشيخ الجمري والتوجه بها إلى سجن القلعة. وهناك كان الشيخ على موعد آخر. إذ طلبت منه المخابرات الذهاب للأمير لتعزيته بوفاة الأمير السابق. ولكنه عندما وصل إلى ‏قصر الأمير في الرفاع فوجيء بوجود رموز العائلة الحاكمة ومجلس الوزراء. وقبل دخوله سلمت له ورقة لقراءة "رسالة اعتذار" أمام كل من الأمير ورئيس الوزراء وولي العهد وجميع أعضاء ‏مجلس الوزراء. وكان هناك طاقم تلفزيوني كامل التجهيزات يصور كل شئ ليعرضه في الساعة السابعة ‏مساءً على تلفزيون البحرين، وليشاهد الشعب كيف "يقدم الشيخ الجمري اعتذاره"، وكيف يطلب العفو وكيف يتحدث عن تعهده بالالتزام بالشروط التي طلبتها وزارة الداخلية. الكاميرا لم تكن أمينة في النقل، فقد حذفت عبارات وحركات هنا وهناك. قبل ساعتين من العرض التلفزيوني كانت الشوارع قد امتلأت بأبناء الشعب الذين انهالوا من كل حدب ‏وصوب للقاء الشيخ الجمري. إلا أن قوات مكافحة الشغب انتشرت في كل مكان، وما أن تفرقت الحشود ‏حتى سيطرت قوات الأمن والمخابرات ومكافحة الشغب على جميع المنافذ وفرضت حصارا مستمرا منعت ‏تجمع أبناء الشعب ومنعت وصول الأشخاص إلى منطقة بني جمرة التي يسكنها الشيخ الجمري. وهكذا فرض الحصار على منزل ومنطقة سكنى الشيخ الجمري بعد الإفراج، والحصار مستمر حتى كتابة هذه السطور. ‏خلفيات الحدث الدرامي
أولا: الاعتقال الأول والمبادرة
وضع الشيخ الجمري في 1 أبريل 1995 تحت الإقامة الجبرية وقتل اثنان من جيران الشيخ الجمري ‏عند محاصرة المنزل ثم نقل إلى المعتقل وبقي هناك حتى 25 سبتمبر 1995. وفي نهاية أبريل 1995 تقدم ‏الشيخ الجمري مع رفاقه بمبادرة لتهدئة الوضع مقابل الإفراج عن



 الموقوفين والمعتقلين، على أن يتم تقديم ‏المطالب السياسية بعد عودة الهدوء. افرج عن " جماعة المبادرة" في أغسطس وسبتمبر 1995، ‏وعاد الهدوء وانتشرت الأفراح في البحرين. غير أن وزارة الداخلية لم تطلق الموقوفين والمعتقلين ‏الذين وعدت بالإفراج عنهم، بل واستمرت المحاكمات مما وضع جماعة المبادرة في حرج شديد، أدى ‏بهم لإعلان الاعتصام داخل منزل الشيخ الجمري والإضراب عن الطعام لمدة عشرة أيام حتى 1 نوفمبر ‏‏1995. وفي 1 نوفمبر اجتمع قرابة 80 ألف مواطن أمام منزل الشيخ الجمري معلنين التضامن ‏والصمود، وكان هذا اكبر تجمع في تاريخ البحرين. استشاطت الحكومة غيظا وبدأت المصادمات تزداد ‏داخل المساجد بين قوات الأمن وأبناء الشعب، وتصاعدت وتيرتها حتى 21 يناير 1996، عندما أعيد ‏اعتقال جميع أفراد المبادرة وجميع الخطباء وعلماء الدين والنشطاء والذين ظهروا على السطح خلال ‏الفترة المنصرمة.
ثانيا: الاعتقال الثاني والزنزانة الانفرادية ‏وضع الشيخ الجمري في زنزانة انفرادية مباشرة بعد اعتقاله في الساعات الأولى (بعد منتصف الليل) في 21 يناير 1996، لمدة تزيد على تسعة شهور. ونعرف ‏هذه الحقيقة من رسالة استطاع الشيخ الجمري تسريبها لاحقا إلى عائلته مؤرخة بتاريخ 2 نوفمبر 1996 ‏يقول فيها ما يلي (وهي موجهة لزوجة الشيخ "أم جميل"):
"
بسمه تعالى، قرة العين أم جميل، أعزائي ‏وعزيزاتي، فسلام من الله عليكم ورحمة وبركات، وبعد: فأحمد الله سبحانه على عظيم نعمه علي، ‏ومنها نعمة السجن، لتكفير ذنوبي، وإعلاء درجتي إذا شاء سبحانه، ومواساتي ومشاركتي لإخواني وأبنائي السجناء والغرباء، وحصولي على تربية نفسية عالية، وإتاحة فرصته كبيرة لعبادته سبحانه ‏وتلاوة كتابه، فله المنة وله الحمد. قرة العين، أحبائي، حبيباتي: ما اعظم شوقي إليكم، وما اشد حنيني لرؤيتكم، شوق الواله الحزين، ‏وحنين المفارق والمعذب. وليكن ذلك، وليكن السجن، فما عسى أن يكون مهما عظم بلاؤه - في سبيل الله ‏تعالى، وبسبب قضية عادلة، ومن اجل شعب عظيم وفي سبيل يستحق أن يفدى بأغلى الأشياء. أحبائي بلغني ما حصل للحبيبة منى (زوجة ابن الشيخ الجمري المهندس محمد جميل الذي كان معتقلا أيضا لقضاة فترة سجنه لمدة عشر سنوات - بدأت منذ 1988) من اعتقال شهرين، وذلك بعد الإفراج ‏عنها، وقد كدر هذا وجدي وضاعف ألمي، ولكن ذلك بعين الله تعالى.‏ بلغني مرض العزيز صادق ورقاده بالمستشفى عشرة أيام وذلك بعد أن رخص، فلله الحمد والمنة على ‏شفائه، وكفى وكفيتم كل بلاء. بعد مرور 9 أشهر و12 يوما في السجن الانفرادي جيء إليّ - بفضل الله ومنه- بالشيخ علي أحمد، ‏فكان كالماء البارد على قلب الظمآن، في الحر الشديد، فلله الحمد والمنة.‏ أحبائي: لا تقلقوا، فالفرج قريب تلوح أمامي تباشيره ومؤشراته. اجل : سنعود بإذن الله تعالى، وستعود ‏الابتسامة على الثغور الحبيبة، والراحة إلى النفوس المتعبة... وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل ‏الظن أن لا تلاقيا. تحياتي لكل الأهل والأبناء وأبناء العم والجيران وتحياتي وأشواقي للغائبين جمع الله الشمل معهم، والى ‏اللقاء، يا كل الأحبة، القريب القريب بإذن الله تعالى ودمتم محروسين".
‏‏توضح الرسالة المذكورة الوضع القاسي الذي كان يعيشه الشيخ الجمري في الزنزانة الانفرادية لا يعلم ‏ماذا حصل في هذه الفترة التي شهدت معظم الحوادث الخطيرة في فترة الانتفاضة التي بدأت في ‏ديسمبر 1994.
‏ثالثا: الصمود داخل السجن
كان الشيخ الجمري يرفض جميع التهم الموجهة إليه واستطاع الصمود أمام ظروف الاعتقال حتى ‏مارس 1998، وبعد هذا التاريخ تحول الوضع كثيرا. طوال عام 1997 كان الشيخ الجمري يعاني الأمرين ويعاني ‏من ازدياد مرضه ( ضيق التنفس وحالة ضعف عامة) ومع ذلك فقد كان صامدا وشامخا وفي كل ‏مقابلة يسمح له بها مع عائلته كان يتحدث بجرأة ويوصي بالصمود. وخلال هذه الفترة كانت هناك ‏محاولات لإعادة فتح حوار مع الحكومة، وكان الشيخ
 يرفض إعادة ما حصل عام 1995. وكان يطالب ‏أن يكون الحوار مع القيادة السياسية وليس
 
الجهاز الأمني، وأن يكون الحوار مع الأطراف الوطنية الأخرى لكي لا تنحصر المشكلة بالطائفة الشيعية فذلك خطر إستراتيجي. ‏
كان الشيخ الجمري يضايق كثيرا أثناء مقابلته لعائلته ووضعت أجهزة تصنت وتصوير دقيقة، وبعد ‏كل مقابلة يتم استدعاء ابن الشيخ الجمري (صادق) ويشغل له الفيديو ليشاهد ويسمع ما يقوله الشيخ ‏الجمري بصورة منخفضة جدا لعائلته. ويتم تهديد صادق وبقية أفراد العائلة إذا استمروا في التحدث ‏بقضايا لا تعلم عنها المخابرات. وبالفعل تمكن جهاز المخابرات من الأطباق على المنفذ الوحيد الذي كان متوفرا للشيخ الجمري مع العالم الخارجي.
منذ مطلع1997 لم يستطع الشيخ الجمري أن يتعرف على ما ‏يجري خارج السجن ولم يستطع أن ينقل أي شئ إلى خارج السجن. وهذه المعاملة القاسية لم يخضع لها ‏أي سجين آخر. وبعد أن تمكنت المخابرات من أحكام السيطرة على جميع منافذ العالم الخارجي ( خارج ‏السجن) بدأت مرحلة أخرى انتهت بكسر عزيمة الشيخ الجمري.
رابعا: محاولات كسر العزيمة
في الأيام الأولى من مارس 1998 حصلت زيارة عائلية للشيخ الجمري، وبعد انتهاء المقابلة ‏تلك أخضع الشيخ الجمري لأسلوب شديد في المعاملة وتعذيب اشتمل على الضرب. فقد درست المخابرات شخصية الشيخ كثيرا وعلمت ‏كيف تزعجه. وأكثر ما يزعجه هو الاعتداء على كرامته واحترامه. وبالفعل أمروا أحد الشرطة بسحبه ‏ودفعه وتمزيق ثيابه . ثم وبعد ذلك وضعوه في غرفة يوجد بها ضوء شديد الأشعة وأحاط به ستة ضباط وبدأوا معه دورات قاسية من التحقيق والصراخ والتهديد بالاعتداء عليه وعلى عائلته. ‏وقالوا له "أن الوضع خارج السجن هدأ، ولم تبقى إلا أنت، ولا يفكر فيك أحد، ولا توجد سلطة في العالم ‏تمنعنا من عمل أي شئ نريده، وسوف نخلص عليك". وتناوشوه بالشتم والشدة والتهديد ‏وحرموه من النوم إلى أن سقط مغشيا عليه عدة مرات وقالوا له: "لن نتركك إلا إذا وقعت على ورقة ‏تقول فيها كل ما نريد، وبالتحديد بأنك تطالب بالدستور للتغطية على مطالبك الحقيقية وهي إقامة دولة ‏شيعية في البحرين وأنك مرتبط بإيران .. .. الخ". ونتيجة للمعاملة الشنيعة فإن الشيخ الجمري بحاجة للعلاج حتى بعد الإفراج عنه في 8 يوليو. وقد دخل المستشفى أكثر من مرة بعد أن سقط من الوجع المؤلم في أذنه اليسرى. انهارت قوى الشيخ الجسدية كثيرا ووافق على كتابة ما يريدون اعتقادا منه أنه سيستطيع نفي ذلك في ‏المرحلة التي تلي كتابة الاعترافات. فحسب الإجراءات الأمنية تقوم المخابرات بسحب الاعتراف ثم ينقل ‏المتهم إلى "قاضي تحقيق". وبمجرد أنه يوقع على الاعترافات أمام قاضي التحقيق، تعتبر الأدلة كافية لتقديم ‏الشخص لمحكمة أمن الدولة. ذلك لأن محكمة أمن الدولة تقبل بكل ما هو موقع أمام قاضي التحقيق ‏كشهادة ثابتة وغير قابلة للنقاش. ولأن الشيخ الجمري على علم بهذا الإجراء، تصور أن بإمكانه أن يوقع أمام المخابرات ويفلت من ذلك ‏التوقيع لاحقا. وبالفعل بعد التوقيع أمام المخابرات (أثناء التعذيب) أخذ الشيخ الجمري لقاضي التحقيق، وعندما طلب منه الاعتراف أمام قاضي التحقيق أبى ذلك بشدة ونفى كامل الاعترافات التي اكره على التوقيع عليها.
وهنا قال له المدعو عادل فليفل: "سأخيّسك في السجن"، فرد عليه الشيخ: "افعل ما تشاء، فأنا لست بأحسن من غيري". رفض الشيخ الإدلاء بأي شئ أو التوقيع على أي شيء أمام قاضي التحقيق، مما أدى لتعريضه لوجبات تعذيب أخرى. وهذا أدى بدوره أن يسقط مريضا بشكل ‏خطر أدى لنقله للمستشفى العسكري وانتقل الخبر عن الحالة الصحية المتدهورة للشيخ بعد نقله للمستشفى ‏العسكري، وقامت المعارضة باتصالات فورية مع لجنة الصليب الأحمر الدولي ومنظمات حقوق الإنسان. ‏وعلم لاحقا أن وفدا من الصليب الأحمر توجه إلى البحرين وتم إيقاف التعذيب في حدود 18 أبريل 1998، أي بعد ‏عدة أسابيع من وجبات التعذيب الشديدة.‏ استهدفت المخابرات الشيخ الجمري بالأساس لأنها أرادت الانتقام منه (والانتقام من حشده لـ80 ألف مواطن أمام منزله في 1 نوفمبر 1995) ولأنها تعلم أيضا أن كسره يعني
‏كسر عزيمة الشعب. وهكذا حاولت المخابرات إجبار الشيخ الجمري أن يوقع على الاعترافات
 أمام ‏قاضي التحقيق طوال الأشهر المتبقية من 1998 ولكنها فشلت في إجباره على التوقيع أمام قاضي تحقيق. كان الشيخ الجمري يعيش الآلام وهو يسمع ما يجري بالقرب منه في الزنزانة. فبالقرب من زنزانته الانفرادية هناك يقع سجن يسمى "سجن المكاتب"، وكان الشيخ يسمع التكبيرات والتأوّهات والصرخات عندما تداهم الشرطة السجن لممارسة الضرب بالهراوات، حتى أنه أخذ يكبّر في إحدى المرات و يقول "دعوا أبنائي بسلام". ناهيك عن أنه كان يرى الشباب وهم معصّبوا الأعين، يُقادون هنا وهناك، في الوقت الذي
تقول له المخابرات بأنه وراء كل عذاب يصيب هؤلاء إن لم يتنازل.
من الضروري الإشارة لما كان يجري داخل السجن مع الشيخ الجمري طوال الأشهر المتبقية من ‏‏1998. فعندما رفض الشيخ الجمري التوقيع على اعترافات أمام قاضي التحقيق، سعت الحكومة لكسره ‏مرة أخرى، ولكن بطريقة أخرى، وذلك من خلال إيصال معلومات مغلوطة - بوسائل شتى وبصورة مستمرة - لتشويش وجهة نظر الشيخ. كما وأشاعت الحكومة بأنها ستوسط الإمام محمد ‏مهدي شمس الدين (رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان) لزيارة البحرين.
خامسا: انتهاء فترة التوقيف دون محاكمة
مع اقتراب موعد انتهاء فترة الثلاث سنوات التي يحددها قانون أمن الدولة للإفراج عن المتهم إذا لم يقدم ‏لمحاكمة شعرت الحكومة بحرج شديد خصوصا مع ازدياد المطالبات الداخلية والخارجية للإفراج عن الشيخ عبد الأمير الجمري القاضي والنائب في البرلمان المنحل وعضو لجنة العريضة الشعبية، والكاتب والشاعر ‏وعالم الدين.
لقد اعتقد الشيخ الجمري أن خطته (وهي عدم التوقيع أمام قاضي تحقيق) قد نجحت. إلا أن القانون - حتى قانون أمن الدولة - لا يلزم دولة لم تعد تحترم نفسها. فعندما انتهت فترة الثلاث سنوات تقدم المحامي عبد الله هاشم بتظلم لدى محكمة أمن ‏الدولة استعرض فيها نصوص قانون أمن الدولة وكيف أن هذا القانون نفسه يوجب الإفراج عن الشيخ ‏الجمري في 21 يناير 1999. ذلك لأن المادة الأولى من قانون أمن الدولة تقول "ولا يجوز أن تزيد مدة الإيداع على ثلاث سنوات كما لا ‏يجوز القيام بأي تفتيش أو اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في الفقرة الأولى إلا بأمر من القضاء". إلا ‏أن الحكومة لم ترد على لائحة التظلم هذه.‏
سادسا: الشروع في المحاكمة بعد انقضاء وقتها
‏غير أن وزارة الداخلية بيدها كل شئ والحكومة لا يوجد من يسائلها عما تعمل. وبالفعل قامت وزارة الداخلية بتقديم الشيخ الجمري للمحاكمة في ‏‏21 فبراير1999، أي بعد شهر كامل من وجوب الإفراج عنه. حيثيات الجلسات كثيرة، وأدى تقديم ‏الشيخ الجمري للمحاكمة لحدوث ضجة إعلامية وحقوقية دولية. وقد قال الشيخ الجمري أمام المحكمة (وتناقلت ذلك وكالات الأنباء) انه ليس مجرما وان كل ما يطالب به هو عودة المجلس الوطني.
بدأت الأوضاع تزداد توترا، حتى ‏توفى الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في 6 مارس،
واستلم الحكم ابنه الشيخ حمد، وتأجلت ‏الجلسة الثانية التي كان من المقرر أن تعقد في 7 مارس حتى إشعار آخر. وارجع الشيخ الجمري إلى زنزانته انفرادية حتى أنه لم يعلم بوفاة ‏الأمير السابق إلا بعد أن التقى بعائلته في شهر أبريل، أي بعد شهر من الوفاة.
أثناء فترة الحداد لثلاثة اشهر، انتشرت الآمال بأن الحكم الجديد سوف يتبع سياسة جديدة مع أبناء ‏الشعب. وبالفعل كان هناك آمال وتفاؤلات حسنة خصوصا عندما تحدث الأمير الجديد عن عزمه للإصلاح وأنه لا يفرق بين المواطنين على أساس المذهب. وفي هذه الفترة طلب الشيخ محمد بن سلمان آل خليفة (عم الأمير) الاتصال بأبناء ‏الشيخ الجمري. وبالفعل ذهب أبناء الشيخ الجمري للقائه، وهناك استقبلهم بحفاوة بالغة، وقال لهم أن ‏الشيخ حمد رجل يختلف كثيرا عما يعتقده الآخرون وسيكون من افضل الحكام، وأنا اعلم ذلك لأني من ‏كبار عائلة آل خليفة. إنني معكم وأطالب بالإفراج عن الشيخ الجمري وتعويض عوائل المقتولين ‏والإفراج عن
 جميع المسجونين. واقترح عليهما كتابة رسالة يوجهونها للأمير ووعد أن يسلمها بنفسه.

علمت المخابرات بموضوع الرسالة ‏فاستدعت صادق ابن الشيخ الجمري للتحقيق معه حول الأمر. وكان واضحا أن قضية الشيخ الجمري أصبحت ضمن الأوراق التي يختلف عليها أطراف الحكم. فرئيس الوزراء استشاط غضبا وأصر ‏على إهانة الشيخ الجمري وتقديمه للمحاكمة في مقابل رأي آخر يطالب بالإفراج عنه لفتح صفحة ‏جديدة مع أبناء الشعب. المخابرات كانت تستدعي صادق كل عدة أيام وتحقق معه وتهدده أحيانا وتأمله ‏خيرا أحيانا أخرى. كما أن المخابرات طلبت من صادق الاتصال بالوكالات الأجنبية (مثل رويتر) عدة مرات لنفي تعرض الشيخ الجمري ‏للضغوط. وكانوا يهددونه بأنه إذا لم يفعل ذلك فسيعاقبونه وسيعاملون والده بشدة وسيصدرون عليه أحكاما قاسية.
في هذه الفترة أيضا استدعت المخابرات صادق وقالت له إن الأمير يريد الإفراج عن والدك ولكن وزير الداخلية ‏ورئيس الوزراء يريدان تعهدا مكتوبا من والدك بالأمور الأساسية التالية:
‏أ - أن لا يصرح لأي وكالة صحافية وأن لا يعطي تصريحا سياسيا لأحد.‏‏
ب- أن لا يلقي خطابات جماهيرية وأن لا يرفع مطالب سياسية أمام الجماهير.‏
ج- أن يتوقف عن تدريس طلاب العلوم الدينية في جامع الإمام زين العابدين (الكائن أمام منزل
الشيخ ‏الجمري في بني جمرة). وقالوا له "إذا وقع والدك على هذه الشروط فأنه سوف يؤخذ لقراءتها أمام الأمير ورئيس الوزراء وولي ‏العهد، وسوف تقوم المخابرات بتصويره للاحتفاظ بالفلم في الأرشيف، وبعد ذلك سوف يفرج عنه". بعد ذلك احضر الشيخ الجمري لمقابلة ابنه والتحدث معه حول هذه الشروط. ونتيجة للمحيط الذي عاشه الشيخ ونتيجة لإيمانه بأن ‏المرحلة الجديدة قد تغيرت وأن بإمكانه أن يعمل بصورة أخرى مع رفاق دربه فقد قرر التوقيع على هذا ‏التعهد. في اليوم التالي للتوقيع، استدعت المخابرات صادق مرة أخرى وأحضرت الشيخ الجمري وقالت لهما "أن ‏رئيس الوزراء يرفض إطلاق سراحك دون محاكمة". وهنا استشاط الشيخ الجمري غضبا وقال "لقد ‏غدرتم بي كعادتكم".
سابعا: إصدار الحكم الجائر ومسرحية الإفراج والحصار المنزلي وهكذا كان، فبعد يوم أو يومين (في 28 يونيو) اعلنت الحكومة عن نيتها لتقديم الشيخ الجمري للمحاكمة، وكانت ‏النتيجة هي جلسات الخمس دقائق، وإصدار الحكم الجائر. بعد إصدار الحكم الجائر اهتز جميع من حضر المحاكمة وقال الشيخ الجمري لعائلته بعد المحاكمة: "إنها أصغر هدية أقدمها للمستضعفين من هذا الشعب".
ارجع الشيخ الجمري لزنزانته الانفرادية، وبعد ذلك قال له الضابط الأول المسؤول عن تعذيب الشيخ الجمري (المدعو عادل جاسم فليفل): "إنسى كل شيء قلناه لك وعن الإفراج عنك. سوف تبقى في هذه الزنزانة الانفرادية مدى الحياة" لإكمال العشر سنوات والتعويض عن غرامة 15 مليون دولار.
في اليوم التالي تغيرت الأوضاع وجاء المعذب فليفل ومعه خالد بن محمد آل خليفة ليقولا "أن الأمير قرر الإفراج عنك ولكن بشرط زيارة قصر الرفاع لتقديم العزاء للأمير بوفاة والده". في هذا الوضع المؤلم لم يكن للشيخ الجمري أن يختار أي شي أو أن يستطيع التفكير في أي شيء. وهكذا كان يوم 8 يوليو ‏‏1999. وصل صادق ابن الشيخ الجمري إلى سجن القلعة ومعه الزي الذي يلبسه الشيخ الجمري (زي علماء الدين). لبس الشيخ الجمري ثيابه وركب سيارة تابعة للمخابرات متجهة إلى قصر الأمير بالرفاع. وعند وصوله هناك ولدى دخوله القاعة سلمت له رسالة اعتذار مفروضة عليه. وهناك في ‏قصر الإمارة كان الأمير ورئيس الوزراء وولي العهد وأعضاء مجلس الوزراء - وطاقم تلفزيوني - كلهم جاهزين لتنفيذ آخر بنود الدراما التي هزت المجتمع البحريني. بعد الإفراج عن الشيخ الجمري في 8 يوليو فرض الحصار على منطقة بني جمرة لمنع المواطنين من زيارته. فهناك أحد عشر مدخلا للمنطقة ووقف على كل منها ما بين سبعة وعشرة من الشرطة، ويمنع هؤلاء أي مواطن من خارج المنطقة من دخولها ويطلبون
البطاقة السكانية للتأكد من هوية الشخص. أما الدائرة الثانية المحيطة بمنزل الشيخ ومقبرة
 المنطقة فهي اكثر حصارا ولا يسمح باجتيازها إلا بصعوبة. ويتكثف الحصار خلال أوقات الصلاة والليل. وهناك ثلاث سيارات للشرطة ترابط بالقرب من منزل الشيخ والمسجد الذي يصلي فيه لمنع المواطنين من دخولهما. ويتم تنفيذ إجراءات الحصار بشدة. وأقيم مكتب خاص لذلك الحصار بمركز الشرطة بالبديع يقيم فيه عناصر المخابرات.
الشيخ الجمري كان في وضع لا يحسد عليه والتاريخ سيقرأ الأحداث مرات ومرات، إلا أن المؤكد أن الحكومة خسرت فرصة ذهبية لبناء جسور الثقة مع شعبها باللجوء لهذه الأساليب الرخيصة. كانت ردة الفعل الشعبية الأولية بعد العرض التلفزيوني للشيخ الجمري، هي الصدمة، إلا أن الشعب كشف تلك اللعبة التي لعبتها الحكومة. ففي ذلك مساء 8 يوليو - أي بعد العرض التلفزيوني بأقل من ساعة - خرج الكثير من الناس للشوارع لإعلان مساندتهم للشيخ الجمري وإدانتهم لأساليب الحكومة، و تم قمع تلك المسيرات بالرصاص المطاطي و مسيل الدموع و حدثت اشتباكات مع الشباب الذين شاركوا في تلك المسيرات، كما حدث في سترة مثلا. التفاؤل بالتغيير في العهد الجديد الذي انتشر في بداية الأمر وخصوصاً بعد السماح لمقالات الصحفيين المحليين التعرض لهذا الموضوع بدأت تتبدد، وبدأت الصحافة المحلية تتحاشى ذكر موضوع الإصلاح وعادت أجواء التشاؤم لتخيم على البحرين. الحكومة خسرت الورقة التي كانت تستخدمها للضغط على الشارع المتحرك. فإسكات الشيخ الجمري لا يعني إسكات الشارع أو تعطيل مشروع المعارضة، بل على العكس. فالشيخ الجمري مكبل وصمته عنوان ظلامة كبيرة لشعب مظلوم، والمطالب مستمرة، والمعارضة المطلبية تجذرت في أعماق الشعب ولا مفر للظالمين مهما طال الزمن ومهما استخدموا من وسائل إذلالية، فالشعب باق وحقوقه باقية والمنتهك لتلك الحقوق مندحر بإذن الله